Uncategorized

[:ar]نظــــــام الحكـــــــم[:]

[:ar]

المبحث السادس

نظــــــام الحكـــــــم

    

نظام الحكم في الإسلام قائم على مراعاة مصالح البلاد والعباد ، فحيث تكون المصلحة المعتبرة فثمة شرع الله (عز وجل) ، فكل ما يحقق الأمن والأمان والاستقرار ، ويعمل على عمارة الكون وسعادة البشر يتفق ومقاصد الأديان ، وكل ما يؤدي إلى الظلم أو الفساد أو التخلف لا علاقة له بالأديان ، بل إنه متناقض كل التناقض مع صحيح الأديان ومقاصدها السامية ، على أن الإسلام لم يضع قالبًا جامدًا صامتًا محددًا لنظام الحكم لا يمكن الخروج عنـه ، وإنمـا وضع أسسًـا ومعـايير متى تحققت كان الحكم رشيدًا يُقـرّه الإسلام ، ومتى اختلّت أصـاب الحكم من الخلل والاضطراب بمقـدار اختلالهـا .

ولعل العنوان الأهم الأبرز لنظام أي حكم رشيد هو مدى تحقيقه لمصالح البلاد والعباد ، وعلى أقل تقدير مدى عمله لذلك وسعيه إليه ، فأي حكم يسعى إلى تحقيق مصالح البلاد والعباد – في ضوء معاني العدل والمساواة والحـرية المنضبطـة ، بعيدًا عن الفـوضى والمحسوبيـة وتقديـم الولاء على الكفاءة – فهو حكم رشيد معتبر .

وتحت هذا العنوان الرئيس تتداعى تفاصيل كثيرة تهدف في مجملهـا إلى تحقيق العدل بكل ألوانه السياسية والاجتماعية والقضائية بين البشر جميعًا ، وعدم التمييز بين الناس على أساس اللون أو الجنس أو العرق ، فلا إكراه في الدين ، ولا حمل لأحد على الدخول فيه عنوة .

فكل حكم يعمل على تحقيق ذلك ويسعى إلى توفير الحاجات الأساسية للمجتمع من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وبنًى تحتية من : صحة ، وتعليم ، وطرق ، ونحو ذلك مما لا تقوم حياة البلاد والعباد إلا به، فإنه يُعدُّ حكمًا رشيدًا سديدًا موفقًا ، مرضيا عند الله وعند الناس إلا من حاقد ، أو حاسد ، أو مكابر ، أو معاند ، أو خائن ، أو عميل .

     ويؤكد أهل العلم والرأي والفكر أن الله (عز وجل) ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة , وأن الدول قد تدوم مع العدل والكفر ، ولا تدوم مع الظلم والإسلام ؛ لأنه لو كان هناك إسلام حقيقي لما كان هناك ظلم ولا جور.

      أما من يتخذون من قضية الخلافة وسيلة للمتاجرة بالدين واللعب بعواطف العامة محتجين ببعض النصوص التي يسقطونها إسقاطًا خاطئًا دون أي دراية بفقه الواقع أو تحقيق المناط من جهة ، ويجعلونها أصل الأصول الذي عليه مناط الإيمان والكفر من جهة أخرى ، فإننا نرد عليهم بما أكد عليه فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب شيخ الأزهر في كلمته التي ألقاها في مؤتمر” الأزهر في مواجهة الإرهاب والتطرف ” من أنه لا نزاع بين أهل العلم المعتبرين في أن الخــلافة أليــق بالفــروع وأقرب لها ، ومذهب الأشــاعرة على أنهــا فـرع لا أصل ، وذكر فضيلته ما ورد في كتاب “شرح المواقف” الذي يُعد أحد أعمدة كتب المذهب الأشعري ، حيث ذكر مؤلفه في شأن الإمامة أنها “ليست من أصول الديانات والعقائد عندنا بل هي فرع من الفروع” ، ثم علَّق فضيلة الإمام قائلا : فكيف صارت هذه المسألة – التي ليست من أصول الدين عند أهل السنة والجماعة – فاصلاً عند هذا الشباب بين الكفر والإيمان ، وفتنة سُفِكَت فيها الدماء ، وخُرّب العمران، وشُوّهت بها صورة هذا الدين الحنيف ؟!

وعندما تحدث النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديثه الجامع عن الإيمان والإسلام والإحسان لم يجعل (صلى الله عليه وسلم) الخلافة ركنًا من أركان الإيمان أو الإسلام ، فعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال : “بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ، قَالَ: صَدَقْتَ ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ ، قَالَ: ( أَنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) ، قَالَ: صَدَقْتَ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ ، قَالَ: (أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ ، قَالَ : (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ) ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا ، قَالَ: (أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا ، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)، قَالَ : ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ، ثُمَّ قَالَ لِي: ( يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ؟) قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : (فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ) ([1]).

أما جملة الأحاديث التي تتحدث عن الخلافة والبيعة فيمكن أن تُحمل في جملتها في ضوء معطيات عصرنا الحاضر على ضرورة إقامة نظام حكم عادل رشيد له رئيس ومؤسسـات ، يعمل على تحقيـق العـدل بين النـاس ، وتحقيق مصالح البلاد والعباد ، ويستند إلى الشورى والإفادة من الكفاءات وأهل الخبرة والاختصاص ، بحيث لا يترك الناس فوضى لا سراة لهم ، ولا إشكال بعد ذلك في الأسماء والمسميات طالما أنها تحقق الأهداف والغايات التي يسعى الإسلام لتحقيقها بين الناس جميعًا بما يحقق صالح دينهم ودنياهم .   

ومن ثم فإن قيام بعض المجتمعات بسن قوانين لتنظيم أمور حياتها بما يحقق العدل والمساواة , ويعمل على القضاء على الجرائم بشتى أنواعها , ويؤدي إلى عمارة الكون , وتحقيق الأمن والاستقرار والتقدم والرخاء لهو مقصد هام من مقاصد التشريع في بناء الدول واستقرارها, ومما لا غنى عنه فيما لم يرد فيه نص قاطع حاسم قطعي الثبوت والدلالة بإجماع أهل العلم والفقهاء المعتبرين , ذلك أن دراسة المستجدات والقضايا العصرية مما يحتاج إلى اجتهاد فقهي وتشريعي بما يناسب الزمان والمكان وتحقيق المصالح المعتبرة للبلاد والعباد في ضوء المقاصد العامة للتشريع .

وبما أن الله (عز وجل) لم يخص بالعلم ولا الفقه قومًا دون قوم أو جيلًا دون جيل , ولم يقصـر الاجتهاد الفقهي ولا العلمي على عصـر دون غيره , فإن مجال الاجتهاد سيظل مفتوحًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، بل إنَّ الفتوى – كما قرر أهل العلم- قد تتغير بتغير الزمان أو المكان أو أحوال الأشخاص أو المستفتين , وأنَّ ما كان راجحًا في عصر وفق ما اقتضته المصلحة في ذلك العصر قد يكون مرجوحًا في عصر آخر إذا تغيرت ظروف هذا العصر وتغير وجه المصلحة فيه ، وأن المُفْتَى به في عصر معين ، وفي بيئة معينة ، وفي ظل ظروف معينة ، قد يصبح غيره أولى منه في الإفتاء به إذا تغيّر العصر، أو تغيّرت البيئة ، أو تغيّرت الظروف ، ما دام ذلك كله في ضوء الدليل الشرعي المعتبر ، والمقاصد العامة للشريعة ، وكان صادرًا عن من هو – أو من هم – أهل للاجتهاد والنظر .

ونؤكد على الآتي :

  1. أن أهم ما يميز الحكم الرشيد في الإسلام هو العدل , العدل في الرضا والغضب , مع الصديق والعدو , حيث يقول سبحانه : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([2]), ويقول الحق سبحانه : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا }([3]) ، ويقول سبحانه : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}([4])، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}([5]), ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إنِّي أَخَافُ الله ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُه مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا ففاضت عَيْنَاهُ)([6])، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ عَادِلٌ ، وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ)([7])، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ)([8])، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ( مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَتَى اللهَ مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ ، أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ([9])، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَـزَّ وَجَـلَّ ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ، الَّـذِينَ يَعْــدِلُـونَ فِي حُكْمِهــمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ) ([10]).

وهو ما أكده سيدنا أبو بكر (رضي الله عنه) في أول خطبة له عند تولي الخلافة حين قال : أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوِّموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله ، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله ، أطيعوني ما أطعـت الله ورسـوله ، فإذا عصيت الله ورسـوله فـلا طـاعـة لي عليكم([11]) , ولم يكتف بذلك قولا , إنما حققه قولاً وعملاً .

وهو ما أكده وانتهجه أيضًا سيدنا عمر (رضي الله عنه) عند توليه الخلافة فكرر المعاني نفسها في أول خطبة له , وها هي رسالته التي أرسلها إلى سيدنا أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) يقول فيها : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ , فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلَّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ , آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَجْلِسِكَ ، وَوَجْهِكَ، وَعَدْلِكَ ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَخَافَ ضَعِيفٌ جَوْرَكَ , الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ , الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا , لَا يَمْنَعُكُ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ ، وَإِنَّ الْحَقَّ لَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ, الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يُخْتَلَجُ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَاعْمَدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللهِ ، وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى ، وَاجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً وَإِلَّا وَجَّهْتَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ , فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى ، وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ , الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَيْنَهُمْ ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ ، أَوْ مُجَرَّبًا فِي شَهَادَةِ زُورٍ ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ , فَإِنَّ اللهَ تَوَلَّى مِنْكُمُ السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ , ثُمَّ إِيَّاكَ وَالضَّجَرَ، وَالْقَلَقَ ، وَالتَّأَذِّيَ بِالنَّاسِ ، وَالتَّنَكُّرَ لِلْخُصُومِ فِي مَوَاطِنَ الْحَقِّ الَّتِي يُوجَبُ بِهَا الْأَجْرُ وَيَحْسُنُ بِهَا الذِّكْرُ , فَإِنَّهُ مَنْ يُخْلِصُ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ يَكْفِهِ اللهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ , وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللهُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ ، شَانَهُ اللهُ ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَقْبَـلُ مِنْ عَبْدِهِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًـا، فَمَا ظَنُّكَ بِثَـوَابِ اللهِ عَزَّ وَجَـلَّ وَعَـاجِـلِ رِزْقِهِ ، وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ ” ([12]).

وكتب أحد الولاة إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) : إن اللصوص كثروا بالمدينة فكتب إليه : أن حَصِّنها بالعدل([13])، وقد قال أحد

العلماء البلغاء في شأن العدل: ” إنّ العدل ميزان الله الّذي وضعه للخلق، ونصبه للحقّ , فلا تخالفه في ميزانه ، ولا تعارضه في سلطـانه ، واستعن على العـدل بخلّتين: قلّة الطّمـع ، وكثرة الورع” ([14]).

وكان ابن حزم (رحمه الله) يقول : أفضل نعم الله تعالى على المرء أن يطبعه على العـدل وحبّه ، وعلى الحقّ وإيثـاره ([15]).

2- أن العمل على تقوية شوكة الدولة الوطنية وترسيخ دعائمهـا مطلب شرعي ووطني ، وأن كل من يعمل على تقويض بنيان الدولة أو تعطيل مسيرتها ، أو تدمير بناها التحتية ، أو ترويع الآمنين بها ، إنما هو مجرم في حق دينه ووطنه معًا .

3- أن السلطـــة قـد صـارت في منظـور الجمـــاعـات المتطـرفـة غـايـة لا وسيلة ، إذ يتمحور فكر هذه الجماعات حول معنى واحد ربما لا ثاني له، إما أن تَحْكُمَ هي ، وإما أن تُخَرِّبَ لتسقط أنظمة الحكم ، فمصلحة الجماعة – عندهم – فوق مصلحة الدولة ، ومصلحة التنظيم فوق مصلحة الأمة ، إذ لا تقوم هذه الجماعات إلا على أنقاض الدول ، وفي سبيل ذلك كل شيء لديها مباح ومستباح ، فكل ما يمكن أن يسهم في تحقيق غاياتهم السلطوية هو في أيديولوجياتهم سبيل من سبل التمكين التي يجب الأخذ بها ، حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى سفك الدماء ، أو ترويع الآمنين ، أو إسقاط الدول ، أو تفكيكها ، أو تفتيتها ، أو تدميرها ، أو تعريض وجودها من أساسه للخطر والمخاطر ، إذ إنهم يرون أن قوة الدولة إضعاف للجماعة ، وإضعاف الدولة أو إسقاطها إنما هو طريق تمكين الجماعة ؛ لذا لا يتوقع من عناصـر هذه الجماعات أيُّ خير لأوطانهم ، بل إنهم وبال وشـر أينما حلوا أو حتى ارتحلوا ، لأن الشـر يرحل معهم ويرتحل بارتحالهم ، وهم على الجملة لا يؤمنون إلا بأنفسهم، لا يؤمنون بوطن ولا بدولة وطنية ، فهم على استعداد للتحالف مع العدو أيًّا كان ، بل مع الشيطان نفسه ، ومع كل من يوهمهم بمساعدتهم على الوصول إلى السلطة وتحقيق ما يتمنونه من ورائها ، وهم لا يعتبرون ذلك عمالة ولا خيانة ، إنما يعتبرونه تحالفات وقتية أو استراتيجية  طبيعية طالما أنها تصل بهم إلى مرادهم في تحقيق السلطة التي لا يَعُونَ أي شيء عن مقوماتها أو متطلباتها سوى أنها ستحقق لهم ما يطمحون إليه من أمر دنياهم مغطى بما يوهمون به العامة والدهماء من أنهم إنما يعملون لأمر دينهم ، والأديان براء من كل ذلك ، وأبعد ما تكون عن هذه العمالات والخيانات وهذا التفكير الشاذ المنحرف .

على أن أهم ما نحذر منه هو ما تنطوي عليه هذه الجماعات من حقد على المجتمع , وتربص به , وعمل على الإيقاع به بشتى الطرق سواء بالتخريب المباشر أم بالتعويق والتعطيل والتشويه وقلب الحقائق ، ولهم من أساليب المكر مالا يمكن أن يفكر فيه سوى جماعات الهدم ومنزوعي الوطنية ، لدرجة أن بعضهم أيا كانت مهنته وكان أمام منتج وطني وآخر غير وطني فإنه يفضل غير الوطني لتهوي صروح الصناعة الوطنية ، من باب أن هذا يؤدي إلى إضعاف الدولة وسقوطها ، وهو ما قد يسهم من منظورهم في إفساح الطريق لهم إلى سدة الحكم ، خابوا وخسروا { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ([16]).

كما أننا نحذر من حملات التشويه وقلب الحقائق من خلال المواقع الإلكترونية وبعض الوسائل الإعلامية التي تتسلل عبرها هذه العناصر محترفة الكذب والتدليس، وعلينا أن نتثبت ونتبين حقائق الأخبار حتى لا نقع في شراك ما تريده هذه الجماعات من فوضى ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}([17]) .   

 

*         *         *

 

 

 

 

 

 

 

([1]) صحيح مسلم ،كتاب الإيمان ، بَاب معرفة الْإِيمَانِ ، وَالْإِسْلَامِ ، والقَدَرِ وَعَلَامَةِ السَّاعَةِ، حديث رقم ( 8 ) .

([2]) النحل ، الآية : 90 .

([3]) النساء ، الآية : 58.

([4]) النساء ، الآية : 135.

([5]) المائدة ، الآية : 8.

([6]) صحيح البخاري ، كتاب الأَذَانِ ، باب مَنْ جَلَسَ فِي المَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ وَفَضْلِ المَسَاجِدِ ، حديث رقم 660 .   

([7]) مسند أحمد  ، حديث رقم 11525 . 

([8]) سنن ابن ماجه ، كتاب الصِّيَامِ ، باب فِي الصَّائِمِ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُ ، حديث (1752).  

([9]) مسند أحمد ، حديث رقم ( 22300 ).

([10]) صحيح مسلم في كتاب الْإِمَارَةِ ، باب فَضِيلَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَعُقُوبَةِ الْجَائِرِ، وَالْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ ، حديث رقم (1827).

([11]) السيرة النبوية لابن هشام 2/82 .

([12]) سنن الدارقطني (5/ 369) ، وتاريخ المدينة لابن شبة (2/ 776).

([13]) حلية الأولياء لأبي نعيم 5/305 ط: دار الكتاب العربي ، بيروت .

([14]) أدب الدنيا والدين للماوردي ص 139 ، ط : دار مكتبة الحياة 1986 . 

([15]) رسائل ابن حزم الأندلسي 1/357 ، ط: المؤسسة العربية للدراسات والنشر .   

([16]) الأنفال ، الآية : 31.

([17]) الحجرات ، الآية : 6.

[:]