[:ar]
المبحث الثالث
مخاطر الجمود الشكلي عند ظواهر
بعض السنن والمستحبات
لا شك أن الجمود عند ظواهر النصوص والمعنى الحرفي لها دون فهم مقاصدها ومراميها وغاياتها قصور رؤية وضيق أفق يوقع صاحبه في كثير من العنت والمشقة والانعزال عن الواقع وربما مصادمته، في حين أننا لو أمعنا النظر في فهم المقاصد العامة للتشريع ، وقرأنا السنة النبوية المشرفة بما تحمله من وجوه الحكمة واليسر قراءة مقاصدية واعية لأبرزنا عظمة ديننا العظيم وجوهره السمح النقي ، وغَيّرْنا تلك الصورة السلبية التي سببتها أو سوقتها الأفهام والتفسيرات الخاطئة للجماعات الإرهابية والمتطرفة والمتشددة ورؤى أصحاب الأفهام السقيمة الجامدة المتحجرة على حد سواء , ورحم الله الحسن البصري حين قال : ” إنّ قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتّى خرجوا بأسيافهم على أمّة محمّد (صلّى الله عليه وسلّم) ، ولو طلبوا العلم لحجزهم عن ذلك” .
فنحن في حاجة إلى خطاب ديني مستنير يرتكز على فهم المقاصد العامة للشرع الحنيف .
وقد أكد العلماء والفقهاء والأصوليون على أهمية فهم المقاصد العامة للتشريع, فهي الميزان الدقيق الذي تنضبط به الفتوى ومسيرة تجديد الخطاب الديني معًا .
ولا شك أننا في حاجة إلى قراءة مقاصدية عصرية للسنة النبوية ، تتواكب مع روح العصر ومستجداته ، وتقرب السنة النبوية العظيمة إلى الناس بدلاً من تلك الأفهام والتأويلات التي تنفر الناس من السنة ، بل من الدين نفسه ولا تقربهم منها ولا منه .
ولنأخذ لهذا الفهم المقاصدي أنموذجين:
الأول : فهم أحاديث السواك .
والثاني : فهم أحاديث نظافة الفراش قبل النوم .
الأنموذج الأول
فهم أحاديث الســواك
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ الله عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : (لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ)([1]).
وعن زيد بن خالد الجُهنيِّ (رضي الله عنه)، قال: سمعتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : (لولا أن أشُقَّ على أُمَّتي لأمَرتُهُم بالسّواكِ عندَ كُلِّ صلاةٍ )([2]).
وعن أَبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: (لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ)([3]) .
وعَنْ حُذَيْفَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ)([4]).
وعَـنِ الْمِقْـدَامِ بْنِ شُـرَيْـحٍ، عَنْ أَبِيـهِ (رضي الله عنهما)، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) ، قلت : بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ : (بِالسِّوَاكِ)([5]).
وعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: “رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ “([6]).
وقد بيَّن النبي (صلى الله عليه وسلم) الحكمة من اسـتخـدام الســواك والمـواظبـة عليـه ، حيث قــال : (السِّــوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ)([7]).
وإذا كان القصد من السواك هو طهارة الفم والحفاظ على صحته , وعلى رائحته الطيبة، وإزالة أي آثار لأي رائحة كريهة مع حماية الأسنان وتقوية اللثة، فإن هذا المقصد كما يتحقق بعود السواك المأخوذ من شجر الأراك يتحقق بكل ما يحقق هذه الغاية، فلا حرج مِن فِعْلِ ذلك بعود الأراك أو غيره ، كالمعجون وفرشاة الأسنان ونحوهما، أما أن نتمسك بظاهر النص ونحصر الأمر حصرًا ونقصره قصرًا على عود السواك دون سواه، ونجعل من هذا العود علامة للتقى والصلاح؛ بوضع عود أو عودين أو ثلاثة منه في الجيب الأصغر الأعلى للثوب ، مع احتمال تعرضه للغبار والأتربة والتأثيرات الجوية ، ونظن أننا بذلك فقط دون سواه إنما نصيب عين السنة, ومن يقوم بغير ذلك غير مستنٍّ بها ؛ فهذا عين الجمود والتحجر وضيق الأفق لمن يجمد عند ظاهر النص دون فهم أبعاده ومراميه ومقاصده ، فقد استخدم رسولنا (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه (رضوان الله عليهم) ما كان متيسرًا في زمانهم , ولو عاشوا إلى زماننا لاستخدموا أفضل وأنفع وأحدث ما توصل إليه العلم في سائر المجالات.
* * *
الأنموذج الثاني
فهم أحاديث نظافة الفراش قبل النوم
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: (إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ، وَلْيُسَمِّ اللهَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ ، فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَلْيَقُلْ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبِّي بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي ، فَاغْفِرْ لَهَـا ، وَإِنْ أَرْسَلْتَـهَـا فَاحْفَظْـهَـا بِمَا تَحْفَـظُ بِـهِ عِبَـادَكَ الصَّالِحِينَ) ([8]).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ عَنْ فِرَاشِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ إِزَارِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ بَعْدُ , فَإِذَا اضْطَجَعَ فَلْيَقُلْ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ ، فَإِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا ، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لله الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي ، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ)([9]).
وعَن أَبِي هُرَيرة (رضي الله عنه) عَن النَّبِيّ (صَلَّى الله عَلَيه وَسَلَّم) قال: (إذَا قَامَ أحَدُكُم مِنَ اللَّيْلِ عَن فراشه ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فإنَّه لا يَدْرِي مَا خَلَفَ فِيهِ بَعْدَهُ فَلْيَنْفُضْهُ بِإِزَارِهِ ، أَوْ بِبَعْضِ إِزَارِهِ فَإذَا اضطجَعَ فَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ فَإنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِر لَهَا ، وَإنْ أَرْسَلْتَهَـا فَاحْفَظْهـَا بِمَ تحفظ به عبادك الصالحين)([10]).
والمراد بـــ (دَاخِلَة الْإِزَار) : طَرَفه , وبـ (صنفة الإزار) : حاشيته , وهي جانبه الذي لا هُدْبَ له([11])، فيُسْتَحَبّ أَنْ يَنْفُض الإنسان فِرَاشه قَبْل أَنْ يأوي إليه بطرف ثوبه لِئَلَّا يَحْصُل فِي يَده مَكْرُوه .
ولـو وقفنا عند ظاهر النص فماذا يصنع من يلبس ثوبًا يصعب الأخذ بطرفه وإماطة الأذى عن مكان النوم به كأن يرتدي لباسًا عصريًّا لا يُمكّنه من ذلك .
ولو نظرنا إلى المقصد الأسمى وهو تنظيف مكان النوم والتأكد من خُلوِّهِ مما يمكن أن يسبب للإنسان أي أذى من حشرة أو نحوها، لأدركنا أن الإنسان يمكن أن يفعل ذلك بأي آلة عصرية تحقق المقصد وتفي بالغرض من منفضة أو مكنسة أو نحوهما، فالعبرة ليست بإمساك طرف الثوب ، وإنما بما يتحقق به نظافة المكان والتأكد من خُلوِّهِ مما يمكن أن يسبب الأذى للإنسان؛ بل إن ذلك قد يتحقق بمنفضة أو نحوها أكثر مما يتحقق بطرف الثوب ، لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) خاطب قومه بما هو من عاداتهم ، وما هو متيسر في أيامهم حتى لا يشق عليهم في ضوء معطيات ومقومات حياتهم البسيطة , وكأنه (صلى الله عليه وسلم) يقول لهم : نظِّفوا أماكن نومكم قبل أن تأووا إليها بما تيسر ولو بطرف ثيابكم .
وقد علل بعض شراح الحديث التوجيه بالأخذ بطرف الثوب بأنه (صلى الله عليه وسلم) وجَّه بذلك حتى لا تصاب اليد بأذى من آلة حادة أو طرف خشبة مدببة ، أو تراب أو قذاة أو هوام ، أو حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات ، أو عود صغير يؤذي النائم وهو لا يشعر ، أو نحو ذلك لو عمد الإنسان إلى نظافة مكان نومه بيده([12]), وهو ما يؤكد المعنى الذي ذهبنا إليه .
ومع ذلك فمن شابهت حياته حياتهم فلا حرج عليه إن أخذ بظاهر النص فنظف مكان نومه بطرف ثوبه، غير أن محاولة حمل الناس جميعًا على الأخذ بظاهر النص دون سواه يعد من باب ضيق الأفق في فهم مقصد النص والتعسير على الناس في شئون حياتهم .
كما أن اعتبار من يريد حمل الناس على ظاهر النص بأن فهمه وحده هو الفهم الموافق لسنة الحبيب (صلى الله عليه وسلم) وما سواه غير موافق لها – مع كل تطورات حياتنا العصرية – فهو ظلمٌ بيِّنٌ لسنة الحبيب (صلى الله عليه وسلم), وفهمٌ خاطئ لا يتسق والمقاصد العليا للتشريع من الحرص على أعلى درجات النظافة والجمال والأخذ بكل سبل التحضر والرقي؛ ما دامت في إطار المباح الذي لا حرمة فيه, من منطلق قاعدة أن الأصل في الأمور الإباحة ما لم يرد نص بالتحريم , فعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (إِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا ، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)([13]) , وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) أنه قال : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا فَبَعَثَ الله (عزّ وجلّ) نَبِيَّهُ (صلَّى الله عليه وسلم) وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ ، وَأَحَلَّ حَلالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلالٌ ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ ، وتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ :{ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ}([14]) .
* * *
([1]) صحيح البخاري – كتاب الجمعة ، باب السواك يوم الجمعة , حديث رقم (887).
([2]) سنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب السواك, حديث رقم (46) .
([3]) سنن أبي داود ، الموضع السابق.
([4]) صحيح البخاري ، كتاب الوضوء ، باب السواك , حديث رقم (245)، وصحيح مسلم ،كتاب الطهارة ، باب السواك , حديث رقم (255) ، ومعنى “يشوص فاه”: يدلكه بالسواك .
([5]) صحيح مسلم ،كتاب الطهارة ، باب السواك, حديث رقم (253).
([6]) صحيح البخاري ، كتاب الصوم ، بَاب سِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِلصَّائِمِ.
([7]) المصدر السابق ، نفس الموضع .
([8]) صحيح البخاري – كِتَاب الدَّعَوَاتِ ، بَابُ التَّعَوُّذِ وَالقِرَاءَةِ عِنْدَ المَنَامِ, حديث رقم (6320) , وصحيح مسلم-كتاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ، بَاب مَا يَقُولُ عِنْدَ النَّوْمِ وَأَخْذِ الْمَضْجَعِ, حديث رقم (2714).
([9]) صحيح البخاري- كِتَابُ التَّوْحِيدِ ، بَابُ السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ الله تَعَالَى والاستعاذة بِهَا, حديث (7393)، وسنن الترمذي أَبْوَابُ الدَّعَوَاتِ عَنْ رَسُولِ الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) , حديث رقم (3401) .
([10]) مسند البزار 15/161حديث (8506)، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله ، مكتبة العلوم والحكم ، المدينة المنورة ، ط: الأولى 1988م .
([11]) الهُدْبُ من الثوب : الخيوط التي تبقى في طرفيه دون أن يكمل نسجها (المعجم الوسيط – مادة : هدب) ، تحقيق / مجمع اللغة العربية ، دار النشر : دار الدعوة .
([12]) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 17/ 37 نشر دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، وتحفة الأحوذي بشـرح جامع الترمذي 9/ 244 نشر : دار الكتب العلمية، بيروت ، والإفصاح عن معاني الصحاح لا بن هُبَيْرَة 6/ 281 ط: دار الوطن .
([13]) سنن الدارقطني ، كتاب الرضاع 5 / 325 ، حديث رقم (4396) ، ط: مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان .
([14]) رواه الحاكم في المستدرك ( 4 / 128) حديث رقم (7113) ، والآية (145) من سورة الأنعام .
[:]