Uncategorized

[:ar]العبــادات والعــادات  [:]

[:ar]

المبحث الثاني

العبـــادات والعـــــادات

      إن من الخطأ الفادح الخلطَ بين سنن العبادات وأعمال العادات، وإلباسَ أعمال العادات ثوب سنن العبادات ، بل الأدهى والأمرُّ من ذلك هو الانغلاق والتحجر والإصرار غير المبرر على ذلك ، مع أن الأصل في السنة أن من فعلها فله أجرها وثوابها ومن لم يفعلها فاته هذا الأجر والثواب ، فقد سُئِلَ النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الإسلام فَقَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (خَمْسُ صَلَواتٍ في اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ : (لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ) فَقَالَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): (وَصِيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ) قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ ؟ قَالَ: (لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ) قَالَ : وَذَكَرَ لَهُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الزَّكَاةَ ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ : (لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ) فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَالله لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أنْقُصُ، فَقَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أفْلَحَ إنْ صَدَقَ)” ([1]), وقال (صلى الله عليه وسلم) : ( اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ, أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ؛ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ, وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ, وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ, وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ, وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ, وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ) ([2]) .

ولما سئل (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ قَالَ: ( تَقْوَى الله وَحُسْنُ الْخُلُقِ) ([3]). وأكثر إجاباته (صلى الله عليه وسلم) على أسئلة من كانوا يسألون عن دخول الجنة كانت تدور حول أداء الفرائض, واجتناب الكبائر , والحرص على مكارم الأخلاق , وكل ما ينفع الناس , فعندما سأله (صلى الله عليه وسلم) أحد الناس أن يدله على عمل يدخله الجنة أجابه (صلى الله عليه وسلم) بقوله : ( أَمِطِ الأَذَى عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ) ([4]) , ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ( وتُميطُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ صَدَقَةٌ )([5]), ذلك أن الإسلام جاء لتحقيق مصالح البلاد والعباد ونشر كل ما يحقق الأمن والسلام الاجتماعي وسعادة البشرية في آن واحد .

ومـع تأكيـدنا على الحـرص على الالتزام بالسـنة النبوية رغبة في عظيم الأجر والثواب ، فإننا يجب أن نفرق بوضوح بين ما هو من سنن العبادات وما يندرج في أعمال العادات , فحثه (صلى الله عليه وسلم) على صيام يوم عرفة أو يوم عاشوراء أمر تعبدي يدخل في سنن العبادات ، وكذلك بدؤه (صلى الله عليه وسلم) الوضوء بغسل يديه ثم تمضمضه واستنشاقه فهو أيضًا سنة من سنن العبادات ، لأن ذلك كله من شئون العبادات ، أما ما يتصل باللباس ووسائل السفر ونحوه, فهو من باب العادات وما كان متاحًا على عهده (صلى الله عليه وسلم).

 فكما لا يمكن لعاقل أن يقول : لن أركب السيارة أو الطائرة اليوم وسأسافر بالجمل كما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يفعل ، فإنه ليس من المعقول أيضًا القول بأن هذا اللباس أو ذاك غير موافق للسنة النبوية المشرفة، ما دام هذا الثوب يستر العورة .

ومرجع العادات إلى العرف والعادة، وما يراه الناس ملائمًا لعصرهم وبيئاتهم وطبيعة عملهم، ما لم يخالف ثابت الشرع الحنيف .

وبمــا أن عـورة الـرجـل هي مـا بين سـرته وركبتـه ، فكل ما يستر هذه العورة غير شفاف ولا مجسد لها فلا حرج فيه ولا إنكار على أصحابه، سواء ارتدى الشخص بدلة أم جلبابًا، والأمر يحكمه العرف والعادة ، فالعادة محكمة كما نص الفقهاء.

ولا حرج أن يكون لعلماء الدين لباسهم الذي يميزهم عن سواهم ، وكذلك الحال في الأطباء والمحامين ورجال الجيش والشرطة أو القضاء ، لكن أن نجعل من هذا اللباس أو ذاك دينًا وما سواه ليس دينًا فهو ما لم يقل به أحد من أهل العلم.

ويجب أن نفهم ما ورد من آراء بعض العلماء في ضوء عادات قومهم وزمانهم ومكانهم، فإذا كان الإمام الشافعي (رحمه الله) قد عدَّ غطاء رأس الرجل من لوازم مروءته ([6])  فإنه إنما راعى ظروف بيئته وعصره ، وقد رأينا في عقود ماضية وعاينا في بعض البيئات المعاصرة من يعُدُّ عدم غطاء الرأس مخلاًّ بالمروءة ، لأن عادة القوم جرت به ، أما أن نجعل ذلك دينًا وعلامة من علامات الصلاح والتقوى ، ومن يخالف ذلك يتهم في دينه، أو أن نحاول حمل الناس على ذلك باعتباره دينًا أو سنة أو كلام فقيه واجب الاتباع؛ فهذا عين الجهل والتحجر والجمود .

ومما يؤكد أن الأمر يتصل بالعادة والبيئة والعصر ما ذكره الإمام الشاطبي (رحمه الله) في موافقاته فقال : كشف رأس الرجل يختلف بحسب البقاع في الواقع ، فهو لذوى المروءات قبيح في البلاد المشرقية وغير قبيح في البلاد المغربية ، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة ، وعند أهل المغرب غير قادح([7]).

ولا شك – أيضًا – أن الإمام الشاطبي (رحمه الله) قد راعى ظروف عصره لا ظروف عصرنا , وقد أكد هو على ذلك , حيث قال : إن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني , وبالاستقراء وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور عليه حيثما دار , فترى الشيء الواحد يُمنَع في حال لا تكون فيه مصلحة, فإذا كان فيه مصلحة جاز([8]).

ويقرر الإمام القرافي (رحمه الله) : أن إِجراءَ الأحكام التي مُدْرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد فهو خلافُ الإِجماع وجهالةٌ في الدّين … بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إِلى بلَدٍ آخر، عوائدُهم على خلافِ عادةِ البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادةِ بلدهم، ولم نعتبر عادةَ البلد الذي كنا فيه, وكذلك إِذا قَدِمَ علينا أحدٌ من بلدٍ عادَتُه مُضَادَّةٌ للبلد الذي نحن فيه لم نُفتِه إِلَّا بعادةِ بلدِه دون عادةِ بلدنا ([9]).

ويقـول ابن القيـم (رحمـه الله) : وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَـرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ ([10]) .

      ويقول ابن عابدين (رحمه الله) : إن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص ، وإما أن تكون ثابته بضرب من الاجتهاد والرأي , وكثير منها يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولا ؛ ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد : إنه لا بد من معرفة عادات الناس , فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف  أهله ([11])

 

 *       *        *

 

([1]) صحيح البخاري ، كتاب الْإِيمَانِ ، باب الزكاة من الإسلام , حديث رقم (46 ) ، وصحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، بَابُ بَيَانِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ حديث رقم (11).

([2]) مسند أحمد 37 /417 ، حديث رقم (22757).

([3]) سنن الترمذي كتاب البِرِّ وَالصِّلَةِ ، بَاب مَا جَاءَ فِي حُسْنِ الخُلُقِ , حديث رقم (2004).

([4]) الأدب المفرد للإمام البخاري ، ص 89 حديث رقم (228) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ، دار البشائر الإسلامية ، بيروت .

([5]) صحيح مسلم ، كتاب الزَّكَاةِ ، بَاب بَيَانِ أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَعْرُوفِ , حديث رقم (1009).

([6]) انظر : المهذب في فقه الإمام الشافعي لأبي إسحاق الشيرازي 3/438 , ط : دار الكتب العلمية , بيروت.

([7]) الموافقات للإمام الشاطبي 2 /489.

([8]) الموافقات للإمام الشاطبي 2 /520 .

([9]) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للإمام القرافي، ص 218 .

([10]) إعلام الموقعين لابن القيم 3/16.

([11]) رسائل ابن عابدين “رسالة العرف ” 2/172، دار الكتب العلمية.

[:]